عن تابِعٍ ومتبوع!

منذ سنة تقريبا، حدث حوار في الرسائل الخاصة بيني وبين إحدى الشخصيات المؤثرة على السوشيال ميديا.

تحدثتُ باحترام وأدب معها حول كلام كانت قد كتبتْه. الكلام ظاهره نصح بالخير وباطنه سموم، خصوصا وأنها كانت تستشهد بواحد من أكثر الشخصيات المنحرفة والفاسدة في أمريكا، وهو واحد من أوائل الناس الذين شجعوا على الانحراف والشذوذ الجنسي، والرجل يعتبر فاسد ومفسد حتى بمقاييس الأمريكيين أنفسهم. وفوق ذلك كله، فقد أثبت العديد ممن جاؤوا بعده بأن جميع أبحاثه ليست مبنية على أي أسس علمية وتصنف أبحاثه من ضمن Junk Science .

المهم أني وضحت لها هذا الأمر وبعد أخذ وعطاء، قلت لها إنني أخشى أن يتأثر بها المراهقين وبعض المتابعين غير الناضجين أو الذين لا يتمتعون بالوعي لأن كلامها قد يتم فهمه بطريقة جدا مسيئة قد تهدم بيوتا أو على أقل تقدير قد تجعل الإنسان يعيش في حيرة وشك في دينه وما تربى عليه من قيم.

كان حواري معها على الخاص (أي بيني وبينها وليس أمام الناس) وقد كان كل ذلك بمنتهى الاحترام والأدب بعد أن عرفتها بنفسي حتى تتأكد من أنني لستُ مجرد اسم غير حقيقي أو مجرد إنسانة تريد الاعتراض من أجل الاعتراض، لكني أناقشها في “فكرة” كانت قد طرحتها بالمنطق.

الأمر لم يكن فيه أي نوع من قلة الاحترام أو قلة التقدير لها ولشخصها، والنقاش كله كان حول أفكارها.

لكن الشخصية المؤثرة الشهيرة غضبت مني وأخبرتني بأنها حرة في التعبير عن رأيها وأنها ليست مسؤولة عما يفهمه المتابعين من كلامها وأنها لم تخبر أحدا يوما أن يدمر حياته، فهذه خياراتهم هم وليس لها دخل في ذلك!

وانتهي النقاش بأنها أعطتني بلوك!

وهنا تذكرت فورا الآية القرآنية في سورة الحشر التي يقول فيها الله جل وعلا:

﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِين (16)

و وجدتُ الآيات تتابع في ذاكرتي، فأخذت أبحث عن الآيات التي تتحدث عن هذا المفهوم و وجدت في سورة إبراهيم آية تحكي نفس “السيناريو” تقريبا…مشهد مخيف ومحزن من مشاهد يوم القيامة يحدث بين الأتباع والمتبوعين:

﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)قَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)

 

ثم تذكرت العديد من الآيات التي يتبرأ فيها المتبوع من التابع!

أليس هذا ما يحدث اليوم فعلا؟

تدخل الشخصيات “المؤثرة” بيوتنا بكلامها المعسول وفكرها (أيا كان راقي أو سخيف أو مسموم) ويستعرض المؤثرون أسلوب حياتهم المثالي المليء بالرفاهية أو ملابسهم أو جمالهم، والكثيرون يتبعونهم اتباعا أعمى وكأنهم منزهون عن الخطأ!

بعضهم يفعلون ما يفعلون بنية حسنة وبعضهم بهدف التجارة وبعضهم بلا هدف….لكن النتيجة واحدة…يسرقون أوقاتنا ويسممون عقولنا ثم يرددون شعارهم المشهور: “أنا مسؤول عن كلامي ولستُ مسؤول عن فهمك وعن تصرفاتك!”

وقد أصبت بالدهشة وأنا أقرأ القرآن لأجد هذه الآية التي وقفت أمامها مليا حيث تصف ما يحدث في أيامنا هذه:

﴿ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْباب (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) سورة البقرة.

هل خطر في بالكم أن موضوع “التبعية والمتابعة” مذكور في القرآن وبهذا الشكل الذي يصف حالنا اليوم؟

صحيح أن كل إنسان مسؤول عن عمله ولكن يجب أن لا ننسى أن كل إنسان سواء كان مشهور أو غير مشهور مسؤول عما يقوله أيضاً، وإلا لأصبحت الدنيا فوضى …كل واحد يتلفظ بأسوأ الألفاظ …يسب ويشتم …يسمم أفكار الآخرين…يهين الناس…يشوه القيم …ثم يقول: “من قال لكم أن تتأثروا بكلامي؟ هو مجرد كلام، فلماذا تتأثرون به؟”

إن هذا منطق شيطاني يتخذه الإنسان ليقوم بإخلاء مسؤوليته عن كلامه مع أن كل واحد فينا محاسب عما يقوله وليس فقط عما يفعله كما جاء في حديث طويل عن الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفيه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” أَلَا أُخْبِرُك بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ فقُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْك هَذَا. قُلْت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟” – رواه الترمذي !

إن كل شخص مشهور على السوشيال ميديا وغيرها إنما هو مسؤول مسؤولية تامة عن اختيار كلامه وألفاظه وعن كيفية تأثيره على الناس. هذا ليس اخلاء من المسؤولية لمن يقوم بتصرفات مسيئة للقيم والأخلاق والدين ولكنه تذكير لكل مشهور ومؤثر بل لكل إنسان بأنه مسؤول أمام الله عن الأفكار التي يبثها لمن يتابعه! إنها مسؤولية كبيرة ومخيفة أن تقول كلاما تساهم به ولو بشيء بسيط في أن تدمر حياة إنسان أو تقويه على أن يأخذ قرارا خاطئا يدمر مستقله وحياته!

تخيل أن يكون حسابك على السوشيال ميديا مصدر لتعاسة الآخرين…مصدر لجعلهم يشعرون بالسلبية وبالسخط على حياتهم بسبب كذبك وادعاءاتك أو بسبب أفكارك السامة! أي شهرة هذه!

إن للكلمة تأثير عظيم على العقول والنفوس، وجميع الرسالات السماوية جاءت بالكلمة والحوار قبل المعجزات، فلماذا نتجاهل تأثير الكلام خصوصا إذا كان مصحوبا بالأفعال والصور وكل وسائل الجذب والتأثير؟ لماذا نستهين بقوة الكلمة ونقنع أنفسنا بأننا لا نتأثر بما ينشر حولنا من أفكار؟ لماذا أصبح معنى حرية الفكر والكلمة مرتبطا بالإساءة للقيم والأخلاق؟ لماذا أصبحت الحرية الفكرية مرتبطة بجعل الناس يكرهون واقعهم ويشعرون بالسوء حيال أنفسهم وحياتهم؟

الكلمة مسؤولية! الكتابة مسؤولية! والشهرة مسؤولية! وشتان بين من ينشر الإيجابية وصدق الكلام والحب والجمال الراقي المهذب وبين من ينشر السلبية والتذمر والتعري والابتذال وتحقير الدين والمجتمع! شتان ما بينهما! ولكلِ نوع أتباعه ولكلٍ مكانه عند الله!

 

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنّف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

2 thoughts on “عن تابِعٍ ومتبوع!

  1. كلام في الصميم استاذتي هناك شياطين من الانس تنفث سمومها ولا تعلم انها مسؤولة امام الله عن كلامها وان عليها وزر من تبعها نسال الله العافية

أضف تعليق