عن النقاش و الحوار و المغالطات الجدلية

أصبح النقاش اليوم يشغل حيزا كبيرا من حياتنا إذ أتاحته لنا وسائل التواصل الاجتماعية المتعددة و على رأسها تويتر و الفيس بوك و المدونات و حتى اليوتيوب (و إن كان المسمى الصحيح لما يحدث في اليوتيوب هو السباب و ليس النقاش). و قد اتسعت دائرة النقاش اليوم لتشمل عددا كبيرا من الأشخاص من مختلف الثقافات و الأعمار و البيئات، و لأن ثقافة الحوار تعد جديدة نوعا ما على بلد مثل السعودية، فمن الطبيعي أن تظهر لنا أنواع غريبة من النقاشات التي لا ترقى لمستوى الحوار و لا تصل لمستوى الجدال أو المناظرات العلمية، بل أكثرها للأسف يقع تحت فئة الجدال العقيم أو المراء الذي لا يبحث فيه المتحاورون عن الحق، بل عن انتصارات للذات أو استعراض للثقافة أو دفاع عاطفي انفعالي عمن يحبونهم من العلماء أو الكُتاب أو الفنانين أو عن قضايا يؤمنون بها.

يقول توماس مور في كتابه “يوتوبيا” على لسان إحدى شخصيات الكتاب “إن أحد أعظم انجازات مجتمعنا هو أن أفراده يستطيعون التحاور و التناقش حول موضوعات مختلفة و وجهات نظر متباينة بحرية و تفتح و احترام لأنهم يؤمنون بأن النقاش هو الطريق للحقيقة.”

و نحن نعلم جيدا أنه يصعب الوصول للحقيقة في كل المجالات لكن كلام توماس مور ليس عاريا عن الصحة تماما إذ يمكننا أن نجد إجابات لكثير من الأسئلة عن طريق الحوار و النقاش حتى و إن لم نصل للحقيقة الكاملة، فالحوار يفتح بابا من الأجوبة التي قد تقودنا للحقيقة يوما ما.

و من الطبيعي أن تكون مهمة أي طرف في الحوار أن يقنع الأطراف الأخرى بصواب رأيه، و له كل الحق في ذلك ما دام يتبع أصول الحوار الأخلاقي و يتجنب لا أخلاقيات الحوار مهما اختلف مع من يحاورهم.

و السؤال الذي يتبادر للذهن هو كيف نصل لمستوى راقي من الحوار؟

إن أول خطوة للحوار الراقي و الثري هي المصداقية، فبمجرد أن تكسب ثقة من تحاورهم أو تكتب لهم، فسوف يسهل عليك إقناعهم برأيك، أو على الأقل احترامهم لك حتى و إن لم يقتنعوا.

كيف تصل للمصداقية؟

أن تتحدث من واقع تجربة حقيقية عشتها.

أن تتحدث بناء على بحث شامل و قراءات واعية مكثفة في الموضوع الذي تتحدث فيه و من أكثر من مصدر.

أن تستشهد بوقائع أو حقائق موثقة.

أن تتحدث أو تكتب بلغة صحيحة و ألفاظ واضحة لا تحتمل تلميحات مسيئة للطرف الآخر.

أن تحترم عقلية من يحاورك أو يستمع إليك، فلا تخاطب رجلا متعلما كما لو أنك تخاطب رجلا جاهلا أميا.

أن تحترم من يحاورك و ذلك بالاعتراف بنقاط القوة في حواره و بمحاولة إيجاد أرضية مشتركة بينكما في نقطة من النقاط التي تتناقشان حولها، فهنا تكسب احترامه و يدرك أنك لا تهاجمه شخصيا.

و يحرص الكتاب المحترفين على أن لا يظهروا انفعالاتهم أو عواطفهم و تحيزهم أثناء الكتابة لذلك يأخذون وقتا في التفكير و البحث قبل الكتابة أو الرد حتى لا يقولون ما قد يؤخذ ضدهم.

أما الأمر الثاني الهام جدا الذي يجب أن يضعه المحاور قبل الدخول في أي نقاش فهو التفهم و التقبل و الانفتاح على الآراء الأخرى. إذا دخلت نقاشا ما و أنت تضع في بالك فكرة أنك الوحيد صاحب الفكر الصحيح، فمن الأفضل أن لا تدخل أي نقاش، فالحوار الثري أخذ و عطاء و رد و شد و جذب و توجد فيه سعة كبيرة و مرونة ضرورية لجعله صحيا مفيدا و راقيا.

لا تضع في بالك أنك أفضل ممن تحاوره أو تعلم أكثر منه، بل ضع نصب عينيك أنك هنا لتتعلم و تفيد و تستفيد. و ضع في بالك أن كل ما ستقوله يمكن الرد عليه و يمكن دحضه و رفضه، فاستعد لذلك بالحجة و المنطق و ما لديك من علم و خبرات.

بدون هذا الفكر، اسمح لي أن أقول لك، لا تدخل أي نقاش و احتفظ لأفكارك بنفسك، فلن يقتنع بكلامك إلا شخص لا علم و لا خبرة لديه على الإطلاق.

و حسب Jean Wyrick  في كتابها “خطوات للكتابة الجيدة”، هناك أخطاء أو ممارسات تتنافى مع أخلاقيات الحوار و النقاش و يقع فيها الكثير من الكُتاب و المشاهير لغرض الإقناع.

و من أهم تلك الممارسات اللا أخلاقية أو ما يسمى (بالمغالطات الجدلية) ما يلي:

1- استجداء العواطف أو استدرار التعاطف: فالمحاور الذي ليس له حجة قوية ليقنعك برأيه، قد يقع في هذا الخطأ و يضغط على زر العاطفة لديك حيث يقص عليك قصة محزنة أو مخيفة فيخدر عقلانيتك و يوقظ عواطفك و انفعالاتك ليكسبك في صفه.

2- استغلال الجهل: قد تكون هناك معلومة ما غير صحيحة مئة في المئة أو غير مثبتة، فيستخدمها المحاوِر ليكسب نقطة حيث أن المستمع إليه لا يستطيع أن ينفي ما يقوله. و أحيانا قد لا تكون لدى المستمع أي معلومات عن قضية ما، فيستغل المحاور هذه النقطة و يستفيض في سرد نقاط (غير دقيقة) حتى يكسب اقتناع مخالفه أو سكوته على الأقل.

3- الجدال بناء على الروابط: قد يستغل المحاور صلة أو قرابة مَن أمامه بشخص من أسرة ما عرف بسوء أخلاقه، فيربط بين الاثنين و يحكم على الشخص الذي أمامه من خلال قريبه. هناك مثال واضح يستخدمه بعض محاوري البرامج و الكُتاب في أمريكا عندما يتحارون حول قضية ما في السعودية، فيحكمون على جميع السعوديين بالإرهاب لمجرد أن بعضهم قام بعمليات إرهابية، و هنا يكسبون اقتناع الجمهور (غير الواعي) بشكل كبير.

4- دعم الحوار بالتهديد: كثير من القضايا و النقاشات اليوم يتم كسبها بهذه الطريقة خصوصا في المجال السياسي و الإقتصادي “إدعم فكرتنا أو توجهنا حتى لا تعرض نفسك للمشاكل أو لما لا تحمد عقباه”

5- دعم الحوار بأسلوب مع الخيل يا شقرا أو أسلوب الأغلبية: يستخدم المحاور هنا الفكر الذي يوحي بأنه طالما تقوم الاغلبية بفعل ما، فلابد أنه صحيح.  هذا الأسلوب مستخدم بكثرة عربيا وعالميا، بل إن هذا الأسلوب هو إحدى الدعامات الأساسية التي يقوم عليها الإعلام العربي و العالمي. 

6- إعادة تدوير الحجة: أي تكرار نفس الحجة أو السبب لكن بلغة أو صياغة مختلفة.

7- البدائل الخاطئة: هنا يقترح المحاور بديلا واحدا فقط لمشكلة ما و يتجاهل أي حلول أو بدائل أخرى رغم وجودها و توفرها.

8- التشبيه الخاطيء: هنا يشبه المحاور قضيته التي يحارب من أجلها بقضية أخرى تشبهها جزئيا لكنها بعيدة عنها منطقيا كأن يقول “ليس للمؤسسة الحق في طرد موظف صالح فذلك مثل أن تطرد ضيفا مهما جاء يزورها”

9- الأسباب الخاطئة: يربط المحاور هنا حدوث شيء ما بآخر لمجرد أنه حدث ذات مرة. مثلا: كلما أغسل سيارتي، تمطر السماء. غسلت سيارتي اليوم، لذلك ستمطر السماء أيضا.” و طبعا هذا الأسلوب شائع جدا لدينا للأسف.

10-عرض أنصاف الحقائق أو اقتطاع و تجزئة النصوص: طبعا هذا أسلوب شائع جدا لدينا في الحوار للأسف و يمارسه كُتاب و مفكرون على مستوى عالِ جدا و لم يسلم منه إلا القلة النزيهة. و هنا يسوق المحاور لجمهوره أنصاف أدلة أو يقوم بتغييب بعض الحقائق و يظهر منها ما يدعم موقفه أو فكرته فقط، و هذا الأسلوب لا يختلف كثيرا عن الكذب أو إخفاء الحقيقة كاملة. و هو أسلوب يجرمه القانون الأمريكي إن تم إثباته لأن فيه إساءة للسمعة و افتراء على الأديان أو الأشخاص أو المؤسسات.

11- التعميم المتسرع الانفعالي: إن إطلاق تعميم ما حول مسألة ما ليس خطئا دائما، لكن هناك تعميمات يطلقها البعض بناء على دراية (بسيطة ببعض) الواقائع التي تدعم التعميم. مثال: زوج أختى خائن و كذلك زوج صديقتي. إذن جميع الرجال خونة.

12- التعميم البسيط: و هو تعميم غير مبني على أي وقائع أو تجارب . مجرد رأي عام جدا يقوله غالبا شخص غير مؤهل أو بسيط الخبرة. مثال: كل البنات سخيفات أو دراسة العلوم لا فائدة منها أبدا…إلخ.

13- المبالغة في تبسيط القضايا المعقدة: هنا يتجه المحاور لإقفال النقاش عندما لا يجد ما يدعم فكرته، فيقوم بتبسيط الفكر المخالف له بطريقة مبالغ فيها. مثال: شخص سرق أفكار شخص آخر و ألف على أساسها كتابا، فتجد المحاور يدافع قائلا: عادي…لم يفعل جريمة…مجرد أخذ أفكار زميله و نقلها ونشرها للجميع…المفروض يُشكر على نشر الفكرة!

14- أسلوب “تعكير البئر” أي مهاجمة الطرف المخالف في شخصه أي الشخصنة: و ما شاء الله هذا الأسلوب عند بني قومنا حدث و لا حرج، فبدل أن نناقش الفكرة، نهاجم الشخص. بدل أن نجد الحجة لدعم قضيتنا، نهاجم الطرف الآخر في شخصيته أو سلوكه رغم أن سلوكه لا علاقة له بالقضية التي يناقشها لا من قريب و لا من بعيد. مثال: تناقش مديرك و تحاول إقناعه بأن الحضور مبكرا ليس ضروريا، و عندما لا يقتنع، تهاجمه قائلا: روح ربي أولادك أول، بعدين تعال كلمني!

15- التشتيت: مثال: في نقاش حول قيادة المرأة مثلا…تقول أن القيادة ضرورية للمرأة، فيأتيك شخص و يقول بأن السكن ضروري أيضا بل أهم من القيادة رغم أن القضيتين منفصلتين عن بعضهما البعض و لا يؤثر حل إحداهما على الاخرى! و ما يحدث غالبا في نقاش كهذا أن ينصرف الناس عن القضية الأساسية و يتجهون للقضية الجانبية التي تم “رميها” فجأة في نصف النقاش! (لم أستطع أن أقاوم إيراد هذا المثال “الطازج” من هاش تاق ظهر مؤخرا في تويتر) 🙂 

16- الأسلوب الإنزلاقي: و هو أسلوب غير منطقي في ربط الأحداث ببعضها أي القول بأن حدثا ما سيؤدي للآخر حتى و إن كان غير منطقي أو لن يحدث بالضرورة في كل حالة. مثال: لو استمر الطفل بمشاهدة المصارعة الحرة، فسوف يتأثر تحصيله العلمي، و سوف يصبح عنيفا، و سينتهي به المطاف في السجن!

و قد يقول قائل، إن كل شيء جائز في الحب و الحرب، فما المانع من استخدام هذه الأساليب أثناء الحوار أو النقاش العلمي؟ لا يوجد مانع حقيقي سوى فقدان المصداقية! فلو حدث أن اكتشف جمهورك خدعك و حيلك هذه، فسوف تفقد مصداقيتك إلى الأبد و سيكون من المستحيل عليك أن تستعيد ثقتهم فيك بعد ذلك…و أتوقع أن أي كاتب أو محاور محترم يدرك جيدا أهمية الثقة بينه و بين من يتعامل معهم..إلا إذا كان من النوع الذي تهمه الشهرة و عدد المتابعين، فأولئك قد يكون الحرج مرفوعا عنهم و وصلوا لمرحلة “الحصانة” الاجتماعية…أو التويترية. 🙂 

هذا المقال مترجم (بتصرف) من كتاب:

Steps to Writing Wellwith Additional Readings By Jean Wyrick

11 thoughts on “عن النقاش و الحوار و المغالطات الجدلية

  1. بارك الله في قلمك و جهدك أستاذة مها.
    فخورون بعقليتك يا ابنة الوطن…ليت الجميع في نضجك و رقي فكرك.

    تحيتي
    أخوك
    عبد العزيز العنقري

  2. موضوع مهم و رائع جدا أستاذة مها!
    و أستأذنك هل يمكن ان اقتبس من مقالك من أجل بحثي؟

    شكرًا لكِ على كل شيء 3>

    • شكرًا عزيزتي داليا
      يمكنك بالتأكيد لكن استفسري من أستاذتك او مشرفتك عن القيمة العلمية للاقتباس من المدونات و يمكنك الرجوع للمصدر الأصلي الذي ترجمته …تجدينه في آخر الموضوع و الكتاب موجود في مكتبة أمازون.

      و الله يوفقك في بحثك 🙂

  3. هذه اول زيارة لي لمدونتك . مدونة ثرية و طرح راقي ما شاء الله ..سأكون من المواظبين على قراءة حروفك سيدتي.
    موضوعك هذا مهم جدا و نحتاجه بشدة ليس فقط في السعودية بل في أرجاء الوطن العربي

    لفتت نظري تحديدا نقاط المغالطات الجدلية فكم نعاني منها …

    دمتي بود 🙂

    • أهلا بكـِ في مدونتي يا لمى و شكرًا جزيلا على تشجيعك و كلماتك الجميلة 🙂

  4. سيدة الحرف …
    تكتبين فتبدعين و تترجمين فتذهلين!

    اختيار مناسب جدا لواقعنا العربي ..موضوع يجب أن يقرأه كل مثقف…و ترجمة متميزة!

    أنتِ من الكاتبات السعوديات القلائل اللواتي أتابعهن.

    باقة ورد لكِ سيدتي 🙂

  5. مقال مهم جدا عزيزتي مها!
    و للأسف معظم المغالطات الجدلية المذكورة في المقال يمارسها الكتاب و المثقفون لدينا…لا أدري..معقول ليس لديهم علم بها أم ليس لديهم منهجية في الحوار و التعبير عن وجهات نظرهم؟
    خذي مثلا خطاب منال الشريف في أوسلو …فيه تجزئة واضحة للأحداث التاريخية حتى تكسب تعاطف الجمهور الغربي في رؤيتهم لها كامرأة مقهورة من بلد متخلف!
    لا أدري كيف يحسبون مثقفون علينا و هم لا يتبعون أبسط مقومات الجدال العلمي الناجح..تخيلي حتى على المستوى الأكاديمي…بحوث ماجستير ودكتوراه مليئة بالغثاء….لا منهجية و لا مصداقية و لا إثراء… و جميعهم يأخذون امتياز و تطبع بحوثهم على نفقة الدولة!

    آسفة إن ثرثرت كثيرا…لكني سعيدة و فخورة جدا بمعرفتك و معجبة بالمواضيع المميزة التي تطرحينها بعكس كتاب الصحف الذين يعيدون و يزيدون و ينافقون!
    أنتِ و د مرام مكاوي و حياة الياقوت من القليلات اللواتي أحرص على القراءة لهن دائما!

    لكِ كل الود عزيزتي 🙂

    • و أنا سعيدة أكثر بمعرفتك أستاذة
      و ردك شهادة أفخر بها جدا…
      بالنسبة المغالطات فهي موجودة حتى لدى مثقفي الغرب و لكن المتميزين منهم غالبا ما يتجنبوها…أما مغالطة خطاب أوسلو فقد ذكرتها في مقال مفصل نشر في صحيفة أنحاء .

      أسعدني مرورك جدا 🙂

أضف تعليق